فصل: (سورة التوبة: آية 74)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة التوبة: آية 73]

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)}
{جاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف {وَالْمُنافِقِينَ} بالحجة {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} في الجهادين جميعًا، ولا تحابهم وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه، يجاهد بالحجة، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها. عن ابن مسعود: إن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه فإن لم يستطع فبقلبه. يريد الكراهة والبغضاء والتبرأ منه. وقد حمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها.

.[سورة التوبة: آية 74]

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)}
أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم، منهم الجلاس بن سويد. فقال الجلاس: واللّه لئن كان ما يقول محمد حقًا لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا، فنحن شر من الحمير. فقال عامر بن قيس الأنصارى للجلاس: أجل، واللّه إنّ محمدًا لصادق وأنت شرّ من الحمار. وبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فاستحضر فحلف باللّه ما قال: فرفع عامر يده فقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق فنزلت: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا} فقال الجلاس: يا رسول اللّه، لقد عرض اللّه علىّ التوبة. واللّه لقد قلته وصدق عامر، فتاب الجلاس وحسنت توبته.
{وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام {وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا} وهو الفتك برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وذلك عند مرجعه من تبوك: تواثق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون، فقال: إليكم إليكم يا أعداء اللّه، فهربوا.
وقيل: فقال: أنشدكم اللّه، كم أصحاب العقبة الذين أرادوا أن يمكروا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فقال: ترى أنهم أربعة عشر، فان كنت فيهم فهم خمسة عشر. ومن هذا الوجه رواه الطبراني والبزار وقال روى من طريق عن حذيفة وهذا أحسنها وأصلحها إسنادا. ورواه ابن إسحاق في المغازي ومن طريقه البيهقي في الدلائل عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبى البختري عن حذيفة بن اليمان.
قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أقود به. وعمار رضى اللّه عنه يسوق الناقة حتى إذا كنا بالعقبة وإذا اثنى عشر راكبا قد اعترضوه فيها قال: فانتهت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فصرخ بهم فولوا مدبرين.
همّ المنافقون بقتل عامر لردّه على الجلاس. وقيل: أرادوا أن يتوّجوا عبد اللّه بن أبىّ وإن لم يرض رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم {وَما نَقَمُوا} وما أنكروا وما عابوا {إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ} وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بديته اثنى عشر ألفًا فاستغنى {فَإِنْ يَتُوبُوا} هي الآية التي تاب عندها الجلاس {فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} بالقتل والنار. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
هَاتَانِ الْآيَتَانِ مَعْطُوفَتَانِ عَلَى الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِبَيَانِ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّضَادِّ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْإِيمَانُ- الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُنَافِقُونَ كَذِبًا وَتَقِيَّةً- وَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا.
قال عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْوِلَايَةِ بِمَعْنَاهَا الْعَامِّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} (2: 257) وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْ أَجْزَاءِ التَّفْسِيرِ وَوِلَايَةُ النُّصْرَةِ الْحَرْبِيَّةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي مَوَاضِعَ أَهَمُّهَا فِي شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ تَفْسِيرُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (5: 51) وَفِي وِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَالْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ تَفْسِيرُ قوله تعالى: (8: 72 و73) وِلَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعُمُّ وِلَايَةَ النُّصْرَةِ وَوِلَايَةَ الْأُخُوَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَلَكِنَّ نُصْرَةَ النِّسَاءِ تَكُونُ فِيمَا دُونَ الْقِتَالِ بِالْفِعْلِ، فَلِلنُّصْرَةِ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ، مَالِيَّةٌ وَبَدَنِيَّةٌ وَأَدَبِيَّةٌ، وَكَانَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنِسَاءُ أَصْحَابِهِ يَخْرُجْنَ مَعَ الْجَيْشِ يَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُجَهِّزْنَ الطَّعَامَ، وَيُضَمِّدْنَ جِرَاحَ الْجَرْحَى، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ كَانَتْ هِيَ وَأُمُّ سُلَيْمٍ وَغَيْرُهُمَا يَنْقُزْنَ قِرَبَ الْمَاءِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَيُسْرِعْنَ بِهَا إِلَى الْمُقَاتَلَةِ وَالْجَرْحَى يَسْقِينَهُمْ وَيَغْسِلْنَ جِرَاحَهُمْ، وَكَانَ النِّسَاءُ يُحَرِّضْنَ عَلَى الْقِتَالِ، وَيَرْدُدْنَ الْمُنْهَزِمَ مِنْ رِجَالٍ، قَالَ حَسَّانُ:
تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٌ ** يُلَطِّمْهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ

وَفِي سِيرَةِ الْخَنْسَاءِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا كَانَتْ تُحَرِّضُ أَبْنَاءَهَا عَلَى الْقِتَالِ بِشِعْرِهَا كُلَّمَا قُتِلَ وَاحِدٌ، حَتَّى إِذَا مَا قُتِلَ الثَّالِثُ قَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنِي بِشَهَادَتِهِمْ. هَذَا شَأْنُ الْخَنْسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ مِنْ أَرَقِّ النِّسَاءِ قَلْبًا، وَأَكْمَدِهِنَّ حُزْنًا، وَرِثَاؤُهَا لِأَخَوَيْهَا مَلَأَ أَنْدِيَةَ الْأَدَبِ شَجْوًا وَشَجَنًا. وَنُكْتَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْوَصْفِ الْمُتَقَابِلِ هُنَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا وِلَايَةَ بَيْنَهُمْ بِأُخُوَّةٍ تَبْلُغُ فَضِيلَةَ الْإِيثَارِ، وَلَا تَنَاصُرٍ يَبْلُغُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّ النِّفَاقَ شُكُوكٌ وَذَبْذَبَةٌ مِنْ لَوَازِمِهِمَا الْجُبْنُ وَالْبُخْلُ وَهُمَا الْخُلُقَانِ الْمَانِعَانِ مِنَ التَّنَاصُرِ، بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ، بَلْ قِصَارَاهُ التَّعَاوُنُ بِالْكَلَامِ وَمَا لَا يَشُقُّ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ وِلَايَةُ التَّنَاصُرِ بِالْقِتَالِ لِأَصْحَابِ الْعَقَائِدِ الثَّابِتَةِ، وَالْمِلَّةِ الرَّاسِخَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ حَقًّا أَوْ بَاطِلَةً؛ وَلِذَلِكَ أَثْبَتَهَا الْقُرْآنُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْضَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِبَعْضٍ وَلِلْكُفَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يُثْبِتْهَا لِلْمُنَافِقِينَ الْخُلَّصِ بَعْضَهُمْ مَعَ بَعْضٍ، بَلْ كَذَّبَ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ فِي وَعْدِهِمْ لِلْيَهُودِ حُلَفَائِهِمْ بِنَصْرِهِمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ إِذَا قَاتَلُوهُمْ فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} (59: 11، 12) فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي عَلَاقَةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُشْبِهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي شَكِّهِمْ وَارْتِيَابِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَآثَارِهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ مِنْ أُخُوَّةٍ وَمَوَدَّةٍ وَتَعَاوُنٍ وَتَرَاحُمٍ، حَتَّى شَبَّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمَاعَتَهُمْ بِالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، وَبِالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَوِلَايَةُ النُّصْرَةِ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْمِلَّةِ وَالْوَطَنِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي آثَارِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ الْمُضَادِّ لِمَا عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ وَهُوَ مَا يُبَيِّنُهُ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا بِقَوْلِهِ: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يَمْتَازُونَ بِهَا عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَعَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، هُمَا سِيَاجُ حِفْظِ الْفَضَائِلِ، وَمَنْعُ فُشُوِّ الرَّذَائِلِ، فَرَاجِعْ مَزَايَاهُمَا فِي تَفْسِيرِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3: 104) وَقَدْ فَضَّلَ اللهُ تَعَالَى بِهِمَا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ فِي قَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} (3: 110) الْآيَةَ وَوَرَدَ فِي فَرْضِيَّتِهِمَا وَفَوَائِدِهِمَا آيَاتٌ أُخْرَى وَأَحَادِيثُ حَكِيمَةٌ.
{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أَيْ: يُؤَدُّونَ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَمَا شَاءُوا مِنَ التَّطَوُّعِ، عَلَى أَقْوَمِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ فِي شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَآدَابِهَا، وَلَاسِيَّمَا الْخُشُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَثْرَةِ ذِكْرِهِ فِيهَا، وَمَا يُوجِبُهُ الْإِيمَانُ مِنْ حُضُورِ الْقَلْبِ فِي مُنَاجَاتِهِ، وَيُعْطُونَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْهِمْ لِمَنْ فُرِضَتْ لَهُمْ فِي الْآيَةِ السِّتِّينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَا وُفِّقُوا لَهُ مِنَ التَّطَوُّعِ. وَفَائِدَةُ إِقَامَةِ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ مَعَ الْإِخْلَاصِ فِي الْإِيمَانِ قَدْ بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} (70: 19- 26) الْآيَاتِ. فَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ عِلَاجٌ لِمَا فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْهَلَعِ وَالْجُبْنِ الْحَاجِمِ لَهُ عَنِ الْإِقْدَامِ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَمِنَ الشُّحِّ الصَّادِّ لَهُ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُنَافِقُونَ أَجْبَنَ النَّاسِ وَأَبْخَلَهُمْ.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَرْبَعَ غَايَةً لِلْإِذْنِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُونَهُمْ وَيُعَادُونَهُمْ فِي الدِّينِ وَسَبَبًا لِنَصْرِهِمْ وَتَمْكِينِهِمْ فِي الْأَرْضِ بِالْمُلْكِ وَالسِّيَادَةِ؛ إِذْ قَالَ بَعْدَ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْإِذْنِ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (22: 41) وَبِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْفُتُوحَاتِ، وَدَانَتْ لَهُمُ الْأُمَمُ طَوْعًا، وَبِتَرْكِهَا سُلِبَ أَكْثَرُ مُلْكِهِمْ، وَالْبَاقِي عَلَى وَشْكِ الزَّوَالِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا إِلَى رَبِّهِمْ، وَيَرْجِعُوا إِلَى هِدَايَةِ دِينِهِمْ، وَلَاسِيَّمَا إِقَامَةِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ مِنْهُ.
وَإِقَامَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِلصَّلَاةِ يُقَابِلُ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ نِسْيَانَهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ رَوْحَ الصَّلَاةِ مُرَاقَبَةُ اللهِ تَعَالَى وَذِكْرُهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَلَا فَائِدَةَ لَهَا بِدُونِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} (29: 45) أَيْ أَنَّ ذِكْرَهُ الَّذِي شُرِعَتِ الصَّلَاةُ لَهُ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ إِذْ بِهِ يَسْتَحْكِمُ لِلْمُؤْمِنِ مَلَكَةَ الْمُرَاقَبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي جُمْلَةِ أَحْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ، فَيَنْتَهِي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ، وَتَزْكُو نَفْسُهُ، وَتَعْلُو هِمَّتُهُ، وَتَكْمُلُ شَجَاعَتُهُ، وَيَتِمُّ سَخَاؤُهُ وَنَجْدَتُهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (87: 14 و15) وَقَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (20: 14) وَإِيتَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلزَّكَاةِ يُقَابِلُ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلَهُ: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} (67) وَلَقَدْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُصَلُّونَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَكَانُوا يُزَكُّونَ وَيُنْفِقُونَ. وَلَكِنْ خَوْفًا أَوْ رِيَاءً لَا طَاعَةً لِلَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} (54) وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا} (4: 142) وَمَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا، وَالْمُقَارَنَةَ بَيْنَ صَلَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَصَلَاةِ الْمُنَافِقِينَ وَزَكَاتِهِمَا لَا يَفْقَهُ حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا الْفِقْهُ لَا يَجِدُهُ طَالِبُهُ فِيمَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ كُتُبَ الْفِقْهِ، وَإِنْ زَعَمَ الْخَاسِرُونَ الْجَاهِلُونَ أَنَّهَا تُغْنِي عَنْ هِدَايَةِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْمُسْلِمِينَ فَائِدَةٌ مِنْهُ إِلَّا التَّعَبُّدُ بِتِلَاوَتِهِ، وَالتَّبَرُّكُ بِمَصَاحِفِهِ، وَكَذَا اتِّجَارُ بَعْضِ حُفَّاظِ أَلْفَاظِهِ بِتَغَنِّيهِمْ بِهِ!.
ثُمَّ قَالَ: {وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} أَيْ: يَسْتَمِرُّونَ عَلَى الطَّاعَةِ، بِتَرْكِ مَا نُهُوا عَنْهُ وَفِعْلِ مَا أُمِرُوا بِهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَهُوَ يُقَابِلُ وَصْفَهُ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْفَاسِقُونَ، فَإِنَّ الْفِسْقَ هُوَ الْخُرُوجُ مِنْ حَظِيرَةِ الطَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقوله تعالى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ} اللهُ يُقَابِلُ نِسْيَانَهُ تَعَالَى لِلْمُنَافِقِينَ وَلَعْنَهُ لَهُمْ كَمَا عُلِمَ مِمَّا فَسَّرْنَاهُمَا بِهِ آنِفًا. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَتَعَهَّدُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِرَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّ السِّينَ فِي مِثْلِ سَيَرْحَمُهُمُ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ كَمَا أَنَّ لَنْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَكِلْتَاهُمَا لِلْمُسْتَقْبَلِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تَذْيِيلٌ لِتَعْلِيلِ هَذَا الْوَعْدِ الْمُؤَكَّدِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَزِيزٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وَعْدِهِ، وَلَا مِنْ وَعِيدِهِ، وَحَكِيمٌ لَا يَضَعُ شَيْئًا مِنْهُمَا إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ. وَلَوْلَا أَنَّ الْوَعْدَ هُنَا لِلْمُقَابَلَةِ بِالْوَعِيدِ الَّذِي قَبْلَهُ لَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَلَمَّا ذَكَرَ صِفَاتِهِمْ وَرَحِمَتَهُ لَهُمْ بِالْإِجْمَالِ، بَيْنَ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ الْمُفَسِّرِ لِرَحْمَتِهِ الْمُؤَكَّدَةِ بِالتَّفْصِيلِ، فِي مُقَابَلَةِ مَا أَوْعَدَ بِهِ الْمُنَافِقِينَ وَإِخْوَانَهُمِ الْكُفَّارَ تَفْسِيرًا لِنِسْيَانِهِ لَهُمْ، فَقَالَ: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} الْآيَةُ نَصٌّ فِي مُسَاوَاةِ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ كُلِّهِ حَتَّى أَعْلَاهُ، بِالتَّبَعِ لِمُسَاهَمَتِهِنَّ لَهُمْ فِي التَّكْلِيفِ وَوِلَايَةِ الْإِيمَانِ، إِلَّا مَا خَصَّهُنَّ الشَّرْعُ بِهِ لِضَعْفِهِنَّ، وَانْفِرَادِهِنَّ بِوَظَائِفِهِنَّ الْخَاصَّةِ بِهِنَّ، إِذْ حَطَّ عَنْهُنَّ وُجُوبَ الْقِتَالِ، وَالصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ جَهِلَهُ أَوْ تَجَاهَلَهُ أَعْدَاؤُهُ الطَّغَامُ، وَالْجَنَّاتُ: الْبَسَاتِينُ الْمُلْتَفَّةُ الْأَشْجَارِ بِحَيْثُ تَجِنُّ الْأَرْضَ، أَيْ تُغَطِّيهَا وَتَسْتُرُهَا. وَجَرَيَانُ الْأَنْهَارِ مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا، مَزِيدٌ فِي جَمَالِهَا، وَمَانِعٌ مَنْ أُسُونِ مَائِهَا، وَالْخُلُودُ فِيهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْمُقَامِ الدَّائِمِ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ مِرَارًا.